Tuesday, February 5, 2013

إلى "سفانا"



استغرب أحدهم عندما قلت له أني ذاهب إلى مدينة "سفانا" في ولاية "جورجيا" في الجنوب الأمريكي. لم أستكثر عليه الاستغراب فما عسى أن يفعل السائح في تلك المدينة؟ بالطبع الكثير، فالمدن بحجم "سفانا" لها تاريخها ومعالمها. حتى وإن لم أكن أعرف عن مدينة "سفانا" سوى نهرها وسفنها البخارية ومعمارها الجميل الأثري من خلال الصور ومن خلال تاريخ الولاية التي تقع فيها المدينة وهي ولاية "جورجيا" كأحد ولايات الجنوب العميق التي حاربت الشمال في الحرب الأهلية الأمريكية في محاولتها في ذلك العهد للحفاظ على محركها الاقتصادي المعتمد على الزراعة بسواعد العبيد. فكان صدامها مع الشمال الذي وصل إلى استنتاج مفاده أن العبودية هي نظام مقيت لا يمكن لأي مجتمع إنساني أن يقبل به.

حين أعلن الكابتن استعدادنا للهبوط في مطار "سفانا هيلتون" نظرت من النافذة متأكدا أني سأرى بساطا أخضر مع أننا في فصل الشتاء مُعتقدا أن مناخ سفانا أقرب إلى الإستوائي بكثافة عشبية وحياة فطرية يغذيها نهرها الكبير. ربما كنت أرى بعين عقلي منظرا مقاربا لقصة "هكل باري فين" للكاتب مارك توين عن حياة صبي في الجنوب الأمريكي؛ شيئ من الفقر والتواضع والترابط مع الطبيعة حيث يعمل الناس بسواعد قوية في النهار ويستمتعون ببساطة الحياة في المساء. الواقع كان مختلفا بعض الشيئ خاصة أن الجو كان باردا بشكل إستثنائي ولكن الحياة البسطية التي تخيلتها كانت موجودة في المنطقة التاريخية في وسط "سفانا" العتيقة الساكنة بين المصانع العملاقة ومداخنها، والميناء التجاري ورافعاته، والمطار وشركات تصنيع الطائرات مثل "جيت ستريم".

ما إن وصلت حتى أخذت في المشي في المدينة القديمة أستنشق هواء الأطلنطي الصافي وعبق نهر سفانا العطر. قررت ليومي التالي أن أفعل كما يفعل كل سائح فطن بأخذ الـ "ترولي" ذلك الباص الخشبي البرتقالي اللون المطعم بالأخضر ذو الجرس النحاسي التقليدي لأستكشف المدينة، فأنا أفعل الكثير لكي أتجنب تحويل رحلتي السياحية إلى واجب منزلي يبدأ بقراءة ويكيبيديا وينتهي بكتابة ملخص عن المدينة ومعالمها. كنت قبل وصولي قد اختصرت الواجب المنزلي بمشاهدة بعض مقاطع "ترافل تشانل" قناة السياحة لحلقات عن "سفانا". نعم، اكتفيت حينها بمعلومات ضحلة عن المطاعم مطمئنا أنه حين أصل سيأتي وقت التعرف على المعالم السياحية حال توجهي إلى مركز السّواح للمدينة لأخذ الخرائط والمعلومات الأهم حول المعالم والأماكن التاريخية.

صعدت إلى الباص من المركز السياحي لمدينة "سفانا" أنظر إلى السياح الذين انضموا إلى الجولة. سائق الباص الذي هو دليلنا السياحي يشير إلى المعالم والأبنية والمجسمات ويخبرنا بتارخها. أتت المعلومات تباعا كلها تستحق المزيد من القراءة والبحث ولكن أهمها كان أن المدينة عُتقت من الحرق بنهاية الحرب الأهلية كغيرها من مدن الجنوب التي كان ينتصر عليها الجنرال "شيرمان". تقول الحكاية أنه عندما دخلها الجنرال وجدها أجمل من أي من مدن الجنوب التي انتصر عليها فعتقها من الحرق كهدية إلى الرئيس "إبراهام لينكون". بقي جمال المدينة التي صُممت على يد الجنرال "أوغولثورب" مبعوث التاج البريطاني قبل استقلال أمريكا على حالها كما كانت حين بنيت في أوائل القرن الثامن عشر الميلادي؛ كانت رؤيته أن تكون المدينة لندنية في طابعها ولكن بكثير من الدفئ والترحيب فكانت حدائقها الـ ٢٤ الخضراء.
تابع الدليل في سرد قصصه والسائحون يصعدون وينزلون من ذلك الباص الخشبي في المحطات المتعاقبة. كلما ذكر الدليل معلومة جديدة أسمع السائحين يتحدثون معلقين عليها بلغات العالم. العجيب كانت أفواج من اللغات الشرق آسيوية بعضها ياباني والآخر صيني ولكن أغلبها كان كوري. ومع ذلك لم تكن كل اللغات التي سمعتها شرق آسيوية في نغماتها. اللغة الهندية كانت أكثر انتشارا فشاهدت عددا كبيرا للملاح الجنوب شرق آسيوية فكان الهنود ينتقلون كَوَحدات عائلية بأجيالها الثلاث: الأب والأم، والجد والجدة، ومجموعة من الأطفال. والأكثر من ذلك دهشة ليس ما شاهدته ولكن ما لم أشاهد أو أسمع وهي اللغة العربية أو أي شخص بملامح حنطية أو هيئة شرق أوسطية.

عاد إلى ذهني استغراب صديقنا أعلاه من زيارتي لـ "سفانا"، سألت نفسي إن كان يقتصر حب التاريخ واستذكار الماضي وتعديد المحاسن واستلهام الأجداد وتسلسل الحسب والنسب على كل ما هو عربي دون غيره؟ أدركت أن الآخرين قد أخذوا دون حرج من العروبة ما قدمته للإنسانية في عصرها الذهبي، بل زادوا عليها وحسنوا وطوروا ومن ثم أعادوه إلى معين الإنسانية. ولكن من بيننا من يستكبر أو يستعلي أو يستعف عن العلم والمعرفة. "سفانا" ليست مكانا بعينه - حتى وإن كانت كذلك في موقعها وتاريخها وبنيانها وسكانها - بل هي حالة عقلية، وجهة لفيض من المعارف والمعلومات. يجب أن تكون "سفانا" كل مكان لا نعرفة وفي كل علم لم نُتقنه وفي كل تاريخ لم نستذكره، فليذهب كل منّا إلى سفانا!

وليد جواد
سعودي أمريكي

منقولة عن إيلاف (تاريخ النشر 5 فبراير 2013) http://goo.gl/Z90xV